Saturday, March 28, 2015

1980 وانت طالع .. على فين؟

                                               





(1)

في البدء .. كان الحُلم ...

مجموعة شباب موهوبون، أصدقاء، يريدون أن يعبرون عمّا بداخلهم، تجاه أشياء تخصهم، وتخص جيل كامل من الشباب مثلهم، ولكن كيف يحدث هذا؟

(2)

تتصل بي صديقة، تخبرني بأنها ستذهب إلى عرض مسرحي إسمه "1980 وانت طالع"، جاء في مخيلتي مئات الإفيهات على هذا الأسم، معظمها اسئلة، لكنني فضلت أن أصمت، قالت لي أن الكثير من الناس يقولون أن هذا العرض مختلف وشديد الجمال، لم أهتم بصراحة، فقط كنت أعاني في هذا الوقت من ضائقة نفسية ومادية، عرضت عليّ أن أذهب معها هي وأصحابها، فرفضت الدعوة بحجة لا أتذكرها الأن، كان هذا منذ حوالي أربعة أشهر، أما الأن فكل الأمور تغيرت ...

(3)

ثم جاء التصوّر ...

يجلسون في المقهى، يتحدثون، عن الحلم، عن الهجرة، عن البطالة، عن الفساد، عن الزواج، عن السياسة، عن الأحداث التى تمر يوميًا أمام أعيننا بشكلٍ متتابع لدرجة أننا لا نستطيع أخذ الوقت الكافي للتعاطف معها بالشكل المطلوب. لماذا لا نقول كل ما نريده في عملٍ يجمع كل ذلك؟

(4)

منذ حوالي ثلاثة أسابيع، بدء الحديث عن هذا العرض مرّة أخرى، لكن الأمور تغيرت، أنا الأن أفضل حالًا، فلماذا لا أذهب إلى هذا العرض الذي يتحدثون عنه؟ لم أذهب إلى المسرح في حياتي مطلقًا، فلم لا أحاول إذن؟ ما المانع؟ إتفقت مع أصدقائي أن نذهب، حدثت بعض الأشياء التي أجلت ذهابنا، مرةً وراء مرة، فما العمل إذن؟ ...

(5)

ثم جاء وقت التنفيذ ...

مسرح صغير بإمكانيات صغيرة لعرض أسمه "1980 وانت طالع" يتحدث عن جيل كامل لم يأخذ حقه في الحياة _حتى الأن_ كما يجب، جيلًا أضاع الكثير من الوقت بين أشياءٍ كانت من المفروض أن تكون متوفرة دون عناء، لكننا جميعًا نمتثل للقدر، ونحاول جاهدين التكيّف، لكن دون أن نخسر أنفسنا.
قاعة صغيرة، ميكروفون واحد معلق في الهواء، وبعض الكراسي الفارغة، وجمهورًا من الأصدقاء والمعارف، يشاهد، يتفاعل، يضحك ويبكي، كل هذا يجعلنا سعداء، ولكن ما نحلم به يفوق هذا بمراحل ...

(6)

يوم الحضور، أخيرًا. حصلنا على التذاكر، ودخلنا إلى القاعة، تبدو بسيطة، عدد الجمهور كبير، أكثر من ربعمائة تذكرة، الكثير من الجالسين على الأرض في الأروقة بين الكراسي، المسرح ممتلئ عن آخره، وفي كراسي المقدمة، يجلس بعض المشاهير، لم أكن أتوقع أن أرى كل هذا النجاح لمسرحية في بلدٍ كسى الغبار فيها المسارح ونسج العنكبوت خيوطه على الكراسي وامتلأت الأروق بالوحشة والسكون.

جالسًا على الكرسي، بجانب صديقي الذي يشاهد المسرحية للمرة الثالثة في نفس الأسبوع، اتمنى أن يكون العرض جميلًا، لا لشيء إلا لأستمتع حقًا بالمسرح لأول مرة في حياتي. بعد قليل، بدأت فقرة من أغاني التسعينات، الوضع يبدو مطمئنًا، ربنا يستر.

(7)

ثم جاءت نقطة الإنطلاق ...

الكثير من الحضور، جمهور كبير، من بينهم فنانين، مثقفين، كُتّاب، نقاد مسرح، شخصيات عامة، الحلم يكبر، قاعة أكبر، وجمهورًا يزداد عدده يومًا بعد يوم، هل هذا ما كنا نحلم به حقًا؟ ام أن الحلم قد تحول إلى واقع.
الصالة ممتلئه عن أخرها، الوضع يبدو مطمئنًا، ربنا يستر.

(8)

تبدأ المسرحية، تنطفئ الأنوار، ويخيم الصمت على الجميع، يبدأ المشهد، ويبدأ الحلم في التحول إلى واقع.

شباب، قريبون منّي في العمر، يناقشون ما أناقشه مع أصدقائي في المقهى، تحكم الجيل القديم وتعنته وعدم تقبله لنا بإعتبارنا بشر يمكن أن يكون لنا أفكارنا الخاصة التي نحب أن نعبر عنها بحرية. يتنقلون من مشهد إلى مشهد، بمساعدة الإضاءة، والموهبة، والكثير من المجهود، تجد نفسك في أماكن مختلفة كثيرة في نفس الوقت، تشاهد نفسك أو على الأقل نموذج قد رأيته في محيطك الشخصي.

على الخيوط القوية التي نسجها المؤلف محمود جمال وأتم بناءها المخرج محمد جبر، يسير الممثلون الموهوبون بقدمٍ ثابتة، يتنقلون بين الدراما والكوميديا، بين الجد والهزل، بين الضحك والبكاء، بين سماء الحلم وأرض الواقع، بين كل المتضادات التى أعتدنا وجدها في حياتنا بشكل أصبح مألوفًا، يسيرون بين كل هذا ولا يخطئون الخطى.

(9)

ثم جاء النجاح ...

تتوالى العروض، على مدار أربعة سنوات، يعرف النجاح طريقه إلينا، الأن يمكننا تحقيق الحلم، الوقوف على قدمين ثابتتين في مواجهة كل شيء، الحلم، الهجرة، البطالة، الفساد، الزواج، والسياسة، الأحداث المتتابعة التى لا نستطيع اللحاق بها ومجارتها نفسيًا حتى، كل ذلك يتم تطويعه كل ليلة، كي يزيد العرض قوة، كي يؤكد العرض نجاحه.

(10)

أتابع بشغف أحداث المسرحية، الإسكتشات المضحكة، والإسكتشات المُبكية، والأوبريت الغنائي الجميل، كل هذا يبعث في النفس شعورًا بالسعادة، السعادة بوجود من يمكنه أن يتحدث بما تفكر فيه، يتحدث بلغتك، يلقي نفس النكات والإفيهات بنفس الطريقة التى تستخدمها أنت وأصدقائك، فلماذا لا أشعر بالسعادة بعد كل هذا؟

توقفت كثيرًا عند مشهد، هو مزيج بين الميلودراما والكوميديا، عن شابٍ أرهقته الدنيا بالسير على قدمية النهار كاملًا لليبيع ما يحمله في الشنطة التى جعلته ظهره محنيًا من كثرة ما حملها عليه، كي يستطيع فقط تحصيل مبلغ يمكنه عن طريقه أن يتزوج الفتاة التى صدقت أنه سيأتي يومًا ما ليطلب يدها وهي تكبر يومًا عن يوم وكلمات الناس تجرحها كسكين حاد يقطع كل يومٍ من جلدها لتنزف دمًا وتذرف الدموع بشكلٍ مكتوم.

يقرر الشاب في نهاية المشهد أن يخلع هذه الشنطة ويقذفها بعيدًا لتذهب هي وأحلامه التى صدقها هو الأخر بعيدًا عنه، لكنه لم يستطع أن يلتزم حتى بترك كل شيء، لأنه يعرف أن عاقبة الترك أشد وطأة من عاقبة التمسك بحلمٍ غير موجود، فيمسك بالشنطة ليمسك بأخر طرفٍ من الخيط الذي خطه في الهواء، ليعيد الكرّه _كجيله كله_ مرّة أخرى، كلاكيت تاني مرة، دون إعادة ولا فواصل.

* المسرحية تأليف محمود جمال، إخراج محمد جبر، بطولة: (حاتم صلاح، محمد العتّابي، أحمد الليثي، إيهاب صالح، سمر نجيلي، عاصم رمضان، مروة الصباحي، محمود عبد العزيز زيزو، مصطفى محمد، على حميدة ومحمد خليفة)

* تعرض المسرحية على مسرح الهوسابير بالقرب من شارع الجلاء - ميدان رمسيس يوميًا تقريبًا في الساعة الثامنة مساءًا .. تذكرة الدخول بعشرة جنيهات للفرد.

No comments:

Post a Comment

أركن إلى المجاز الأقرب والأوضح، لضعف ما امتلك من حصيلة معرفية ولغوية وزخم شعوري تجاه العالم، فالوحدة هي الصحراء الواسعة، والظمأ الأرض ا...