Saturday, December 27, 2014

ديسمبر الماضي.

لم أكن أتصور أن الأيام يمكنها أن تتطابق وتتماثل بهذا الشكل، فتتكرر مرّة أخرى بكل تفاصيلها، ففي هذا الوقت، وبالتحديد منذ سنة، في شهر ديسمبر، من العام الماضي، شعرت بالحزن ايضًا، وتسألت، كيف للحنين _في أوقاتٍ كهذه_ أن يضرب الجزء المسؤول عن الذاكرة بكل قوةً كما يفعل في هذه اللحظات؟

أنا لا أؤمن بأن الأيام تعيد نفسنا بنفسها، ولا أن النتائج دائمًا تتطابق، أنا فقط أؤمن بأن البشر ضعفًا، والحياة قاسية بالفعل، لكن المشكلة هذه المرّة، أنه لا مكان لكلمات الإعتذار، فكلمات الإعتذار لن تحل شيء، لكن، ألا تحتاج هذة الكلمات لأفواه البشر كي تُنطق؟ فأين البشر إذن في شهر ديسمبر الحالي؟

أتخذت قرارًا _منذ فترة_ أنني لن أكتئب، لا يوجد مكان للإكتئاب أصلًا، فألاكتئاب للمرفهين، وأنا لست مرفهًا أبدًا، يمكن القول أنني كنت مرفهًا في الصغر، لكن الأن، والأن بالذات، لا أشعر بجزء ولو بسيط من هذه الرفاهية، لكن إذا لم أكن سأكتئب فلا بأس أن أحزن! فالحزن شعور إنساني يمس المرفهين وغير المرفهين، لا بأس إذًا ببعض الحزن في ديسمبر الحالي ايضًا، لا بأس أبدًا.

كلما مرت الأيام، كلما شعرت بتفاهتها أكثر وأكثر، وكلما شعرت أن ما كنت أشعر به في الماضي هو محض تفاهات لم يكن يجب لشخصٍ في حالتي أن يشعر بها، كيف لشخصٍ في مثل حالتي أن يشعر بالحزن لمجرد البُعد عن شخصٍ كان يحبه كثيرًا؟ كيف يمكن للبُعد أن يكون له مثل هذا التأثير الحزين؟

والأن، وبعد مرور سنةٍ كاملة، أشعر أن هذا الحزن _الذي كان_ لم يكن له هذه الأهمية التي وليته إياها، يمكن أن أكون قد بالغت في تقديره، يمكن أن أكون قد حملته وأوّلته على عدة تأويلات لم يكن لها أصلٌ بداخلي من البداية، لا أعرف، لكن ما أعرفه جيدًا، أن الحزن هذة المرّة مختلف، والمشكلة هذة المرة حقيقية وليس لها علاقة بالمشاعر فقط، بل أنها تؤثر عليّ إجتماعيًا ونفسيًا بشكلٍ مباشر، فلا مكان هنا للأعذار، بل لا مكان للكلمات كلها من الأساس.

منذ سنوات، أصابني هاجس أنني إن مت في هذا الوقت، فلن يشعر بي أحد، ولن يسأل عنّي أحد، وإذا علم أحدهم بموتي لن يحزن، فأنا لم أكن مفيدًا ولا قريبًا لأحد، وإذا حزن فلم يتذكر هذا الحزن بعد يوم أو يومان على أكثر تقدير، فحزنت قليلًا لكنني قررت أن أنسى هذا الهاجس تمامًا ولا أفكر فيه مرّة أخرى، لكن، ولسوء الحزن الملازم لي، أنني وجدت نفسي، كلما جاء شهر ديسمبر، وابتعدت الناس عن بعضهم البعض، وابتعدوا عنّي وابتعدت عنهم، أفكر في هذا الهاجس مرّة أخرى، وفي كل مرّة تشتد وطأته، وأصدق بشكل لا يدع مجالًا للشك، أن الموت لن يكون حلًا جيدًا ابدًا في هذة الأوقات، بالرغم من قسوة الحياة حتى!

أيام قليلة تفصلنا عن السنة الجديدة القادمة، وأنا اتمنى أن تكون بداية هذه السنة أفضل قليلًا من سابقتها، وأن تصل إلى نهاياتها على خير، وأن يأتي ديسمبر، من هذا العام، بدون حزن يجعلنا نتذكر جميع الهزائم التى مضت.

بانوراما 2000: أوديسي الكباريهات.

خرجت من إحدى مولات شارع الهرم بصحبة صديق لي سعيدًا بما حصلت عليه من الداخل، أتذكّر جيدًا أنه كان كوتشي نايكي أبيض، أتذكر لأن من كان يرتدي كوتشي نايكي أبيض ويذهب به إلى المدرسة فلابد من أنه شابًا مميّزًا بلا شك.

كنت في الصف الأول الثانوي، السنة التى أعتبرتها "سنة التيه والضياع" في حياتي، السنة التى أنتقلت فيها من شابٍ يرتدي الزي المدرسي الكامل بربطة العنق والقميص بداخل البنطلون، إلى شابٍ لا يلتزم حتى بلون البنطلون المطلوب للزي المدرسي. لذلك كان عليّ أن أظهر بمظهر الشاب الغير ملتزم بأي شيء، أصل إلى المدرسة مع بداية الحصّة الثالثة وأخرج قبل إنتهاء الحصّة الأخيرة، نذهب للعب البلاي ستيشن والبلياردو في الثامنة صباحًا قبل حتى أن نذهب إلى المدرسة، ثم نذهب على مضض بعد أن يطاردنا بعض المدرسين في الشارع المقابل لشارع المدرسة.

لذلك، في هذه الحالة، لم أكن لأرفض أي إقتراح يقترحه عليّ أحدهم، فعندما خرجنا _أنا وصديقي_ من المول إقترح عليّ أن نذهب إلى المقهى لتدخين الشيشة، لم أكن قد جربت الشيشة من قبل فرفضت وقُلت إنني سوف أتناول إحدى العصائر بدلًا من تدخين الشيشة فوافق.

تحركنا بإتجاه شارع العريش بالهرم، وقبل وصولنا إلى محطة المطبعة وجدنا شابًا قصيرًا مبتسمًا يقترب بإتجاهنا، أوقفنا الشاب وقال "مش عايزين تسهروا يا كباتِن؟" نظرنا إلى بعضنا البعض ونحن لا نعرف بما سنجيب، لكن صديقي أخذ المبادرة وقال "عندكوا شيشة؟" فرد الشاب "طبعًا يا برنس في كل اللي أنت عايزه" فأسجمعت أنا ايضًا شجاعتي وقلت بكل ثقة "طيب عندكوا عصير مانجا؟" نظر لي الشاب مبتسمًا إبتسامة واسعة "يا باشا في كل حاجة" قلت "بكام؟" فقال "الشيشة بخمستاشر والمانجا بعشرة، إتفضل يا برنس ومش هنختلف"، فقررنا _أنا وصديقي_ أن نتفضّل.

تحركنا قليلًا إلى اليمين ثم وجدنا الشاب ينزل عن طريق نفق ضيق إلى تحت الأرض عبر الكثير من الدرجات، نفق ضيق مخيف وبه الكثير من الأضواء الحمراء! نظرت للأعلى فوجدت يافطة كبيرة مكتوبٌ عليها "بانوراما 2000" فلم أعر ذلك إهتمامًا، لكن ذلك أثار تساؤلًا بداخلي، لماذا يُسمي مكانًا تحت الأرب ببانورما 2000؟

في طريقنا إلى البانورما التحت أرضية، وجدنا الشاب يلتفت إلينا ويقول "هقعّد لكم بنت كدة معاكم على الترابيزة تسليكم" وجدت قلبي في هذة اللحظة يدق بقوة من شدة الخوف والفرح في نفس الوقت، فرح لأنه هناك فتاةٌ سوف تجلس معنا على الترابيزة، والخوف أنها فتاةً مستأجرة لم تختارنا ولم نختارها، ثم ما الذي يجعل فتاةً تجلس معنا من الأساس لتسلينا؟ لقد جلست على الكثير من المقاهي ولم يكن هناك أحدٌ ليسلينا هناك!

إقترب الشاب من بابٍ حديدي وطرق عليه ففُتح الباب ودخلنا إلى عالمٌ جديد علينا تمامًا، كل شيء مُظلم تقريبًا، ولا تستطيع تمييز إلا بعض الأشكال، شعرت لوهلة أنني في الفضاء، نظرت على يساري فوجد شكلًا ضخمًا لرجل كان عريضًا للغاية ودماغه مُربّعة يجلس كالملك على أريكة حديدية، وعلى جانبيه تجلس أشكالًا لفتاياتٍ تمسكان بذراعه، شعرت أننا في الطريق إلى المقصلة فزاد الخوف بداخلي أكثر وأكثر.

جلسنا على طاولةٍ في أقصى يسار المكان، مال علينا الشاب وقال ومازالت على وجهة نفس الإبتسامة "هجيبلكم البنت حالًا" فنظرت إلى صديقي ولم أعلّق بكلمة، في هذة اللحظات أخذت أنظر حولي، المكان ضيّق لكن هناك الكثير يحدث بالرغم من هذا الضيق، موسيقى راقصة بالألات الشرقية تصدع في كل أرجاء المكان، على اليمين ترقص فتاة على إحدى الطاولات الكبيرة، وأمامنا البار ورجلًا يشرب شرابًا أصفر اللون على ما أظن أنه كان بيرة والعياذ بالله!

بعد وقتٍ قليل، ظهر الشاب وفي يده فتاة، نظرت لها نظرة سريعة متفحّصة فلم ألحظ غير شعرها البرتقالي من الأكسجين، والبنطلون الكاكي الذي كانت ترتديه، لم أرد النظر إليها أكثر من ذلك حتى لا تتحدث معي فثبّت نظري على كوب المانجا الذي نزل على الطاولة وأنا في حيرة من أمري لأنني لم ألحظ نزوله، نظر صديقي إلى الفتاة وقال "إية الأخبار" فردت عليه بإبتسامة وهي عاقدة يديها "تمام". أشار صديقي إلى الشاب حتى يميل عليه وقال له "هي اية نظامها؟" فرد عليه "مية جنية بالحشيش، خمسين لو من غير، ودي علشان تخرج من المحل، وعرقها هي بقى تتصرف فيه أنت بمعرفتك وبالأتفاق معاها برّة عننا"، فلم أهتم وقررت أن أشرب كوب المانجا وأنا لازلت أنظر أمامي دون أن أتحدث.

لا أعلم كم مر من الوقت قبل أن أقول لصديقي أنني خائف من وجودي في هذا المكان، ولي كل الحق في أن أخاف، فأنا شابٌ لم أكمل السادسة عشر من عمري في مكانٍ أقل شخص فيه يمتلك رخصة قيادة! فقال لي صديقي "أتقل بس تيجي الشيشة وأشد لي حجر وأقوم بعدها" فقررت الصمت وإستكمال رحلتي في تأمل كل ما يحدث حولي، ولم يطقع هذا التأمل سوى أنني سمعت ضحكةً أهتزت لها جدران المكان الضعيفة، فنظرت بإتجاه الضحكة فرأيت فتاةً تضع الكثير من مساحيق التجميل، وجدتها تنظر بإتجاهي وتقول بصوتٍ عالٍ "اية يا واد العسل دة؟ *قبلة في الهواء* جاية لَك!" فدق قلبي بسرعةً شديدة وقلت لصديقي "أنا هقوم أمشي دلوقتي حالًا مش هستنى دقيقة هنا!!".

فضحك صديقي وأشار للشاب الذي رافقنا من الخارج حتى باب النار وقال له أننا نريد دفع الحساب، فرد عليه الشاب "مية جنية يا باشا" فرددنا في نفس اللحظة "مية جنية لية؟ إنت مش قايل لنا خمسة وعشرين جنية تمن الشيشة والعصير، دة حتى الشيشة لحد دلوقتي مانزلتش .. هي عشرة جنية!" فوجدناه يقول "الكلام دة بقى مش معايا، مع الباشا" وأشار للراجل الضخم ذو الوجة المُربّع الجالس على الباب،  تقدمنا نحوه بغضب فقام من مكانه، يبدو أنني أخطأت تقدير أبعاد الرجل، فلم أكن أعرف أن طوله سوف يتخطي الباب ابدًا!

قال بصوتٍ قوي "في حاجة يا كباتِن؟" فشرحنا له بهدوء أن الشاب يريد سرقتنا وأنا إتفق معنا على خمسة وعشرين جنية فقط "هل دة يرضيك؟" فقال "مش في فتحتة ترابيزة؟" فسألناه ما هي فتحتة الترابيزة؟ فقال "السوداني والماية والمناديل والحاجات اللي على الترابيزة دي، دة غير القعدة عليها لوحدها بعشيّن جنية! أنتوا فاكرين اية؟" فترددنا في الرد لأن جميع الأشياء التي أشار عليها بالفعل موجودة ولكن بكميات لا تكفي لإشباع قردٍ صغير الحجم! أكمل كلامه قائلًا "أنا ممكن أطلب البوليس دلوقتي، وإحنا مكان مُرخّص، إنما أنتوا اللي وجودكم هنا هو اللي غلط، ولا أنتوا عايزين القسم يبلغ أهلكم؟" فأرتعبنا ولم نستطع الرد، قال "إنتوا علشان زي إخواتي أنا هاخد منكم الخمسة وعشرين جنية اللي أتفق معاكم عليها بس، وهسيبكم تخرجوا من هنا زي ما دخلتوا" فقررنا إعطاءه الخمسة وعشرين جنية فورًا دون نقاش، فأخذها وأبتعد عن الباب "شرّفتوا".

صعدنا إلى الشارع مرّة أخرى، وحمدت الله على أنه لم يتصل بالشرطة وأن أهالينا لن يعرفوا هذا الأمر ابدًا، عندما خرجنا وجدنا الشاب الذي رافقنا إلى الأسفل يصعد خلفنا بسرعة "يا كباتِن يا كباتِن" نظرنا له وقال صديقي بصوتٍ عالٍ "عايز اية؟" فقال بكل بجاحة "عايز حقّي!" فوجدت نفسي أرد عليه بصوتٍ عالٍ جدًا "حقك اية يا إبن الوسخة بقى تضحك علينا وتقول لنا حقّي؟ أمشي من مشي ينعل أبو شكلك أمشي!" فلم يرد ورحل.

لم نُرِد أن نذهب إلى البيت محطمين بهذا الشكل، فأستكملنا وجهتنا إلى شارع العريش وجلسنا على إحدى المقاهي الشعبية وطلبنا ما أردناه وتحدثنا بحزن قليلًا عمّا حدث لنا، بعدها لم يتوقف صديقي عن الضحك على ما فعلته أنا عندما قالت لي الفتاة أنا "جاية لي"، بعد قليل، قررنا الذهاب إلى بيوتنا، وفي الطريق فكرت في كل ما حدث في اليوم، وحزنت قليلًا، لكنني تذكرت الكوتشي النايكي الأبيض، فنظر إليه مرّة أخرى، وقُلت بصوتٍ منخفض "الحمد لله".


                                                     

أركن إلى المجاز الأقرب والأوضح، لضعف ما امتلك من حصيلة معرفية ولغوية وزخم شعوري تجاه العالم، فالوحدة هي الصحراء الواسعة، والظمأ الأرض ا...