Tuesday, October 6, 2015

عن الذاكرة كخيط ممدود بلا نهاية

لا أتذكر تحديدًا السبب الذي جعلني ابدأ في تدوين ما أراه يستحق التدوين، أتذكر متى بدأت لكن لا أتذكر لماذا بدأت؟ يجوز كان الفراغ مُحرك أساسي للفكرة، لكنه لم يكن بالتأكيد السبب.

ذاكرتي تعمل وفق منظومة عشوائية جدًا، أتذكر أجزاء مشوشة من كل حكاية وابدأ في إضافة الكمالة المناسبة لها، أتذكر الحدث جيدًا، لكني لا أتذكر الوجوه، فابدأ بوضع وجوه مألوفه بالنسبة لي مكان الوجوه التى لم أعد أتذكرها كي تكتمل القصة، لا يمكنك بالطبع حكي قصة بدون وصف وجوه ابطالها، أو يمكنك ذلك، لا أعلم.

في بداية حياتنا بكينا، لا أريد أن أستعمل هذه الجملة بشكلٍ مبتذل كمجاز عن الصعوبات التى سنلاقيها حتمًا في الحياة، لكنني فعلًا بكينا في البداية، يجوز لأننا نبكي عندما نواجه شيئًا لا نعرفه، الأمور الغير مألوفة مخيفة ومُقلقة، مُربكة، هذه الكلمة أدق. إذًا نحن نبكي بسبب عدم معرفتنا بما سنواجهه بعد ذلك؟ أم أننا نبكي لمجرد خروجنا من مكان توعدنا عليه إلى مكان غير مألوف؟ لا أعلم، لكنني أعلم أننا إذا تعودنا على شيء صار أقل أهمية في النفس، فنبكي مثلًا عند أول مرة نشعر فيها بالوحدة، لكنني إذا أعتدنا الوحدة صارت لا تستحق البكاء.

لا أعلم ما الشيء المتحكم في الذاكرة بالضبط، تخونني الذاكرة في لحظات فلا أتذكر شيء كان شديد الوضوح من قبل، وفي لحظات أخرى تضرب الذاكرة بقوة فتتذكر أشياء كأنها قد حدثت منذ دقائق، تتذكرها بشكلٍ واضح بكل التفاصيل. حياتك كلها أصلًا عبارة عن شريط جانبي في حسابك على الفيس بوك، يمكن أن تتأكد من ذلك، سترى أشياء لم تعد تذكرها لكنها كانت مهمة جدًا بالنسبة لك في هذا الوقت، وسترى أشياء لا تريد أن تتذكرها لكنها _وللأسف_ تبدو كجزء مهم من الذاكرة لذلك لا تستطيع نسيانها، لكن كل هذا ليس مهمًا بالنسبة لي، ما يقلقني فعلًا من تذكر الماضي هو سؤال "ماذا تغير؟ وهل تغير للأفضل؟".

في أغنية "دواير" لمروان خوري، يصف عبد الرحمن الأبنودي الحال بشكلٍ دقيق، في بعض الجُمل التى كانت من وجهة نظري شديدة البلاغة فيقول "ولا حاضر، ولا ماضي، تروس بتلف ع الفاضي، ولا فينا شباب زعلان، ولا فينا شباب راضي، مفيش غير إننا بندور" وهذا ما يحدث _على الأقل بشكل شخصي معي_ بالفعل، لا يوجد جديد، فقط تتعاقب الأيام والشهور والسنين، ونمرر نحن كل ذلك ببراعة، نتعامل مع الحياة كأنها شيء نفعله بشكل لا شعوري، دائرة مرسومة بدقة ندور فيها حول أنفسنا فقط، تتقاطع في لحظات مع دوائر أخرى في نقاط تماس للحظات، فندور في هذه اللحظات مع أشخاص أخرين، لكننا في النهاية ندور حول نقطة محدده، لا شيء جديد، كل الأمور تسير مع الزمن، بلا وعي.

لحظات الوعي هي لحظات شديدة الإرباك والصعوبة، تتوقف عن الدوران للحظات كي تسأل نفسك لماذا أدور فقط دون هدف، فتجد ألف يد قد أمتدت إليك كي تساعدك على الدوران من جديد بلا تفكير، لا تفكر، فالتفكير يُعطل مسيرة الدوران، لكنني أحتاج للتوقف كي أفكر فيما يحدث في حياتي، لا وقت للتفكير فقط عليك أن تدور، لا مجال للتفكير في الحب الضائع، والصديق الغير المتواجد، والأخر الناقص من المجموعة، ، والعمل الذي لا تحبه، و .. لا وقت لكل ذلك عليك أن تعمل كي تصبح ذا شأن في المستقبل.

 في الفيلم العبقري سينما باراديسو، يقنع الفريدو توتو بأن يذهب بعيدًا ولا يفكر في حبه الضائع، يذهب بعيدًا وينشغل بنفسه، يعمل ويعمل كثيرًا حتى يحقق مجدًا شخصيًا له، وينسى، يرمي وراء ظهره كل شيء، عائلته وحبيبتها الضائعة، والسينما الصغيرة التي عشقها وصارت حُطامًا، نصحه بأنه عليه أن ينسى كل ذلك كي يستطيع المضي قدمًا في طريقه دون النظر للخلف. فيفعل توتو ذلك ويصبح مخرجًا مشهورًا، لكنه يعود في النهاية بعد موت ألفريدو ليجد أنه ترك له أجمل هدية يمكن أن تُقدّم لشخصٍ مثله.

كانت السينما في إحدى قرى صقلية الصغيرة تابعة للكنيسة فيأتي القس ليشاهد الأفلام قبل عرضها في السينما كي يضع عليها بصمته بقص كل المشاهد التى تحتوى على أي مشهد حميمي ولو بسيط، في هذه الأثناء كان الفريدو يجمع هذه القصاصات وقد صنع منها في النهاية شريطًا كاملًا وأهداه لتوتو.

في مشهد النهاية، ومع الموسيقى الرائعة لـ"إنيو موريكوني" التى كانت سببًا أساسيًا في جعل هذا المشهد يُصنف من أعظم مشاهد السينما في جميع الاوقات. في هذا المشهد يشاهد توتو _بعد أن أصبح مخرجًا_ هذه المشاهد بشكلٍ متتابع على شاشة عرض صغيرة في السينما، يشاهد ويبتسم .. ثم يبكي، ويعود مجددًا ليبتسم، القطع الناقصة من حياته تتشكل أمامه مرّة أخرى، حبه الضائع، والمشاهد التى لم يكن يراها، والتى كانت ناقصة من ذاكرته، كل هذا يعود أمامه، على الشاشة التى عشقها طوال حياته، وقضى معظم أوقات حياته محدقًا بها، ومخلصًا لها، فرحًا بما قدمه، نادمًا على ما ضاع منه.

بعض البشر يفضلون عدم الإحتفاظ بأشياء قد تذكرهم في وقتٍ ما بأحداث لا يريدون تذكرها، فيحذفون الرسائل التى تصلهم أو التى يرسلونها أول بأول حتى لا تكون شاهدًا في يومٍ من الأيام على لحظات كانوا يعتقدون أنها ستبقى للأبد، أو على الأقل لوقتٍ كاف.

في إحدى مشاهد مسلسل How i met your mother تتحدث روبين عن أنها على تحتفظ ابدًا بأي هدية أو تذكار يصل لها، لا تحتفظ بالصور، ولا رسائل الحب، ولا أي شيء، فقط تتخلص من كل هذا لأن هذه الأشياء على حد قولها "تشغل مكانًا بلا هدف" فهى ترى أن التخلص من هذه الأشياء يريحك في المستقبل من عناء إيجاد مساحة كافية لما يمكنك أن تحصل عليه مستقبلًا.

لا أتفق كليًا مع هذه الرؤية التى ترى الذكريات كإشغالات مهملة على جانب الطريق يجب التخلص منها لإيجاد مساحة أخرى لما سيأتى في المستقبل، فالذكريات تكون مهمة في أوقات الحزن والوحدة، وهي الملاذ الأخير لمن لا يرى المستقبل بشكل واضح، أو من كان حاضره غير جدير بالتأمل، أو من قلل فرص جمع أشياء جديدة للذاكرة فظل يعيش على ما أستطاع جمعه لفترة طويلة من الوقت.

الذاكرة شيء لا مهرب منه، فالوقت يمضى ويمر والذاكرة تمتلئ رغمًا عنّا بما نريد تذكره وما لا نريد، كل الأيام تُحتسب، الكثير منها سنتذكرها، سواء كانت جديرة بالتذكر أم لم تكن. كل ما أتمناه أن أجمع عددًا لا بأس به من الذكريات الجميلة كي تخفف عني وطأة الحزن في الأوقات التى أشعر فيها أن العالم أصبح مكانًا ضيقًا، فتأتى هذه الذكريات لتعيد بعد البراح المفقود من حياتي، لتعود الحياة مرّة أخرى للإستمرار، وهكذا.

1 comment:

  1. اشياء تنسينا اشياء
    ربما نتناسها بدهاء
    رحلت و ماتت بسبب
    الجرح او بداعي الانتهاء
    دون تأبين لها او تلقي عزاء
    رحلت تاركه خلفها
    ذكريات حين نذكرها
    تصيب الجسد برعشه انتشاء
    بحار دمع وجبال من البكاء
    وانين صارخ في صمت
    يرجو رحمه من السماء
    اما بنسيان الماضي
    او عوده ولقاء
    وكسر لظمأ الحب
    وشوق الارتواء
    وتطييب لجرح الهجر
    وقتل العند و الغباء
    وتمجيد الاخلاص
    والتعلق والوفاء

    ReplyDelete

أركن إلى المجاز الأقرب والأوضح، لضعف ما امتلك من حصيلة معرفية ولغوية وزخم شعوري تجاه العالم، فالوحدة هي الصحراء الواسعة، والظمأ الأرض ا...