Saturday, November 8, 2014

البحث عن نقطة التماس.

هناك بعض الأثار الجانبية التي قد تظهر عليك كنتيجة طبيعية للوِحدة الإختيارية، والذكريات، والحنين إلى الأيام التي مضت ضمن هذه الأثار وتضرب جزء الذاكرة بقوة دون سبب واضح أو معروف، وبلا أي إعداد سابق، فقط تجد أنك تتذكر ما لم تكن تتذكره.

أتذكر أننا في إحدي سنوات الدراسة، تحديدًا منذ أكثر من سنة ونصف، طرأ علينا تغيرًا لم يكن محسوبًا، أو كان بداعي عمل شيء له هدف بعيدًا عن الدراسة فقط، فأشتركنا جميعًا في إحدى المؤسسات التنموية تهدف إلي تنمية المجتمع عن طريق سحل بعض الشباب المتحمس في أعمال هي في المقام الأول من مهام الدولة ومشكلاتها، لكن لا بأس ببعض المساعدة التي ستحقق ربحًا، في النهاية، نفسيًا للشباب وماديًا للدولة، لكن ليس هذا ما أريد أن اتحدث عنه، أريد أن اتحدث عما كان يحدث على الجانب بالتوازي مع هذه الأعمال التنموية.

إشتراكك في هذه المؤسسات سيوسّع من دائرة معارفك بلا شك، فالمساعدات الإجتماعية تخلق ايضًا علاقات إجتماعية موازية، هذه العلاقات الإجتماعية التي تبدأ بالخط الزمني الطبيعي لها، فتبدأ كعلاقة سطحية، ثم تنتقل إلي علاقة زمالة أو تفاعل العمل، ثم علاقة صداقة قد تطول وقد تتحول بشكل مفاجئ إلى علاقة إعجاب من أحد الأطراف أو الطرفان معًا، وقد تحول، في نهاية الخط، إما إلى علاقة عاطفية أو حب، وإما أن تفشل وتعود مرة أخرى لشكلها الأصلي ما قبل العلاقة من الأساس.

وهذا ما حدث تقريبًا مع كل من أعرفهم في هذه الفترة، وحتى من لم أعرفهم بشكل شخصي، ممن يدخلون إلى هذا العالم دون ترتيب واضح، قد حدث معهم نفس الشيء، لكن ايضًا هذا ليس مقتصرًا على من بداخل هذة المؤسسات فقط، بس كل من له علاقات إجتماعية مع الجنس الأخر في أماكن الدراسة، سواء في المدارس أو الجامعات، الأمر فعلًا ليس مقتصرًا على مكان بعينه، بل على هذه الفترة، فترة نهاية المراهقة وبداية الشباب.

فترة نهاية المراهقة وبداية الشباب هي فترة مُرهقة جدًا، شديدة التأثير في النفس، فترة محمّلة بقدر ثقيل من المشاعر التي تضرب بغير ميعاد، ويعتبرها بعض علماء النفس من أهم فترات الإنسان بعد فترة الطفولة. فتجد انك وكل من حولك قد تحولتم إلى البحث عن ما تفتقدونه في هذة الفترة، البحث عن مشاعر تشعر أنها صادقة، تشعر أنك تختبرها ولأول مرة، تجد نفسك، ولأول مرة، تبحث عن نقطة التماس بين خط المشاعر بداخلك ودائرة معارفك.

نقطة التماس هي نقطة الإلتقاء بين الخط والمنحنى أو الدائرة، وهي نقطة على حدود الشكل أو المنحنى، تشترك في تماسها مع الخط المستقيم بجانبها، لكنه لا يتقاطع معها، لا يتداخل، بل فقط يمسها من الخارج، فتجد نفسك مشغولًا، في هذه الفترة، بالبحث عن هذة النقطة التي قد تتيح لك التعبير عن هذة المشاعر دون تداخل أو تقاطع بينك وبين إحدى نقاط دائرة معارفك، فقط تسمح لك بالقليل الذي يمكن أن تعتبره المطلوب في هذة الفترة، من كلمات الغزل الغير صريح، والمشاعر الغير معلنة بشكل واضح، والتخبط في الكلمات ومحاولته إختيار الكلمة المناسبة قد الإمكان، حتى لا تجد نفسك خارج حدود الدائرة، والعودة إلى نقطة الأصل الصفرية والبحث من جديد عن نقطة تماس أخرى.

ولأننا في الأصل مخلوقات عشوائية، بلا ترتيب، بلا هدف، فهذه الفترة قد تكون أكثر الفترات العبثية التي قد نقابلها في حياتنا، فترة محمّلة بقدر كبير من المشاعر الغير معلنة، ولا سبيل واضح لأعلانها لأننا لا نعرف تعريفات محددة لعلاقاتنا ولا نعرف حدودًا لها، فكيف لهذه الفترة إذًا أن تكون متزنة ومرتبة، وهذا ما حدث بالفعل، الكثير من العلاقات المرتبكة، بل شديدة الإرباك، التي نشأت، والأحاديث الجانبية، والأحاديث السرية التي يتم فضحها بسهولة لأنها ماتزال داخل حدود الدائرة، فلا توجد أسرار بداخل الدائرة إلا مع الذي يستطيع أن يحتفظ بها لأطول فترة ممكنة، فإذا خرج السر من بين اثنين لم يعد سرًا.

ما يترتب على هذة الفترة قد يكون تغيرًا في نظرتك الشخصية للأشياء، للتعريفات، للحب، للصداقة، للمسافات بينك وبين من في الدائرة، ستجد أن بعض الأشخاص سيفضلون الإبتعاد حين ظهور نقطة تماس خاصة بمشاعرهم، وستجدون الحديث، فيما بينكم سيكثر عن كيفية تعاملة معكم بعدما وجد نقطة المماس الخاصة به، فإذا فقدها يعود كطائرٍ يبحث من جديد عن السرب الخاص به.

وأنواع من هم داخل الدائرة مختلفة ومتباينة بشكلٍ واضح، فمنهم من يعجب بالأخر فقط كي يجد الدفء الذي يفتقده في علاقاته الإجتماعية الأخرى أو كتعويضًا للنقص بداخله، ومنهم من يبحث عن فرصة حقيقية، ومنهم من مر بعلاقة عابرة فاشلة في سنوات مراهقته الأولى اثرت به لدرجة جعتله يضع هذة العلاقة كمقياس لعلاقاته الأخرى المستقبلية، ومنهم من يهاب الأقتراب، ومنهم من يحتاج هذا الأقتراب كي لا يشعر بالوِحدة، ومنهم من قد يعجب دون سبب واضح لذلك.

ما رأيته في هذة الفترة المربكه كان أكتر من أن يُحمل على نحو أنها مجرد أحلام مراهقة أو بدايات ضعيفة لقصص لن تكتمل، فكل من حولك يتغيرون، حتى أنت تتغير، ولا تعرف من أين يأتي هذا التغيير، هل من هذه القصص غير المكتملة التي تترك اثرًا ولو بسيطًا في النفس، أم أنه واحد من العلامات لهذة الفترة بكل ما فيها من مشاعر غير مرتبه، لكنه يحدث في النهاية.

عمومًا لا تيأس ولا تبتأس، فلكل شيء نهاية، وأنا لا أحب النهايات، لكن لا شيء يبقى للأبد، بعض الأشياء يمكن تعويضها، وبعضها لا يمكن تعويضها، كأن يتم كسر شيء بداخل تجاة المشاعر بسبب علاقة انتهت ولم يُكتب لها النجاح. دائمًا كنت أتعجب، كيف يستطيع منير أن يقول في أغنية عمر عيني أنها كانت "أحلى بداية ونهاية" كيف أستطاع _هو ومن كتب الكلمات_ أن يجمعا كلمة أحلى مع كلمة نهاية في جملة واحدة؟ لأنه ببساطة لم يشعر أنه أخطاء، بل أنه جعل من هذه الفترة، بكل ضعفها، نقطة قوة لما سيقابله في المستقبل، فالنهايات يمكن أن تكون بالفعل جميلة، إذا أستطعنا أن نتعلم منها أن من نتائجها الحتمية الزوال، ولا شيء يبقى للأبد.

Friday, November 7, 2014

شارع المعز: حكايات من قلب قاهرة المعز وجوهرُه.

 في صيف 2012 كانت المرة الأولى التي نقرر فيها أنا وأصدقائي الذهاب إلي شارع المعز في القاهرة الفاطمية التي لم أكن أعرف عنها شيء غير أن بها عددًا كبيرًا من المساجد لهذا يُطلقون عليها بلد الألف مأذنة، يمكنك إدراك هذه الحقيقة عن طريق الوقوف أمام مسجد محمد علي في قلعة صلاح الدين بالقاهرة.

شارع المعز يعتبر أكبر متحف مفتوح للأثار الإسلامية في العالم العربي وربما في العالم، يبدأ من باب زويلة في الجهة الجنوبية منه ويمتد حتى باب الفتوح والنصر في الجهة الشمالية، وما بين البابين الكثير من المساجد التي يمكن رؤيتها لحظة دخولك إلي الشارع من أي بابٍ منهم.

                                                          




عندما ذهبت أول مرة، لم يعنين كثيرًا أن أعرف من هو المعز لدين الله الذي سُمي هذا الشارع على أسمه، فقط أردت رؤية هذه المساجد والأثار الموجودة في الشارع، لكن بعد ذهابي إلي الشارع للمرة الخامسة أو السادسة قررت أن أعرف من هو، المعز لدين الله هو رابع الخلفاء الفاطميين والذي ارسل جوهر الصقلي على قيادة الجيش لفتح مصر والإستيلاء عليها من الحكم العباسي في ذلك الوقت، ونجح جوهر الصقلي في فتح مصر وإنشاء القاهرة تقريبًا سنة 969 ميلاديًا، حيث أنشاء الجامع الأزهر أول جوامع القاهرة الفاطمية.

بعد ذلك ببضع سنوات، تقريبًا سنة 972م، ارسل جوهر الصقلي رسالةً إلي المعز لدين الله يقول له أنه يرى أن الوقت مناسبًا جدًا لأنتقاله للقاهرة، فأنتقل المعز لدين الله إلي القاهرة وأقام بها حكومةً قوية وجعلها مركزًا للحكم الفاطمي قبل أن يتوفى بعد ذلك بثلاث سنوات، تحديدًا سنة 975م، وقد سمُي الشارع بأسمه منذ دخولة القاهرة الفاطمية حتى وقتنا هذا.

ما لفت نظري عندما ذهبت أول مرّة إلى الشارع أنه كان مرصوفًا بالحجارة، لم يكن مرصوفًا بالأسفلت كما هو حال معظم الشوارع في القاهرة، علمت بعد ذلك أن الشارع قد رُصف بالحجارة في وقت ترميمه سنة 2008م، وتم كذلك ترميم الكثير من الأثار التى تأثرت بأثر زلزال 1992م.

                                                   



أتذكر أن أول ما رأيت في الشارع بعد الأبواب وبعد منطقة خان الخليلي كان مسجد ومدرسة الناصر محمد بن قلاوون، والناصر محمد بن قلاوون هو تاسع سلاطين المماليك، حكم مصر أول مرة سنة 1293م ولمدة سنة، إلا أنه جلس على عرش السلطنه مرّةً أخرى سنة 1299م، بعد خلع الملك العادل المنصوري الذي كان قد بدأ في بناء هذه المجموعة قبل أن يُتمها الناصر محمد بن قلاوون سنة 1304 وتُنسب إليه.

                                              


يُقال أن هذه المجموعة كانت عبارة عن جامع ومدرسة لتعليم أبناء أهالي القاهرة بعد أن بطش بهم الناصر محمد بن قلاوون لمدة أربع سنوات تقريبًا أمر فيها جيشه بقطع رأس من يظهر عليه أنه معترض على سياسته أو أوامره، فكانت هذه المجموعة بمثابة مصالحة منه لأهل المنطقة والتي كانت تحتوي ايضًا على مستشفى ودار لرعاية الأطفال اليتامى والفقراء.

اتذكر أنني عندما رأيته أول مرة لم يلفت إنتباهي غير واجهة المسجد الممتدة والتي يتوسطها باب مكسو بالرخام والزخارف المتناسقة بشكل هندسي شديد الإبداع، لكن بداخل المسجد لم يكن الأمر كذلك، فلم يبق من إيواناته الأربعة غير إيوانين فقط، والإيوان هو عبارة عن صحن مكشوف بلا أبواب قد تتوسطة فسقية كما هو الحال في هذه المجموعة.

                                                 


بعد السير قليلًا في الشارع بإتجاه باب الفتوح، بالتحديد بعد منطقة النحاسين، رأيت واجهة زجاجية كبيرة خلف بعض الزخارف الرخامية المزخرفة بعناية والتي تعطي للواجهة شكلًا مميزًا عن باقي الوجهات، كان هذا _كما علمت وقتها_ سبيل محمد علي باشا الذي انشأه صدقة على روح ولدة إسماعيل باشا. عند دخولك من البوابة ستجد دهليزًا صغيرًا به على اليسار فتحتان، واحدة تصعد بها إلي غرف فارغة إلا من النجف الضخم، والأخرى تنزل بها إلى خزان السبيل الذي يبلغ سعته حوالي 455 ألف لتر، أي أنه قد يكفي لملء حوالي مليون ونصف كوب ماء.

                                                 


بالسير قليلًا تجاه باب الفتوح، وبعد الدخول إلى عطفة على اليمين، دخلنا إلي بيت السحيمي، والذي سُمي بأسم آخر من كان يسكنه، هو الشيخ محمد أمين السحيمي، والبيت هو عبارة عن بيت عربي يعتبر الأن من المعالم الأثرية المشهورة للشارع، يطل البيت على صحن كبير مزروع ببعض الأشجار والنباتات، في الطابق الأرضي يمكنك رؤية المداخل المتعددة إلي البيت والتي تؤدي بك في النهاية إلى الدور الأول من البيت، عندما دخلنا أحد المداخل وجدنا إيوانًا يتوسطة شريط طويل كُتب عليه أبياتًا من الشعر عرفت بعدها أنها أبياتًا من قصيدة البردة للبوصيري على حسب ما علمت بعد ذلك.

                                               


في الدور الأول رأيت جلسة في أحد الغرف تشبه جلسة العرب يتوسطها صحنًا كبيرًا من النحاس، وبعدها غرفة لا يوجد بها غير بعد الدواليب غير المستعملة والكثير من الشبابيك المغطاه بالمشربيات والتي تطل على صحن البيت والتي أيضًا علمت في ما بعد أنها كانت مخصصة للحرملك كي تطل منها النساء على السهرات التي كانت تعقد في صحن البيت الذي يعتبر علامة مميزة جدًا في شارع المعز.

                                            


بعد إستكمال السير بإتجاه باب الفتوح، رأيت مسجدًا يبدو عليه أنه ليس من معالم هذا الشارع في شيء، فهو مسجد صغير جدًا يبدو منكشمًا وسط المساجد الضخمة حوله والتى تطل عليه من جميع الجهات، كان هذا هو مسجد الأقمر أصغر مساجد القاهرة الفاطمية على الإطلاق، واجهة المسجد هي ما يميزه، فهي واجهة مزخرفة ببعض الزخارف الإسلامية لكن إذا لم تدقق النظر بها فسوف يعطيك أنطباعًا أنك أمام واجهة معبد وليس مسجدًا.

                                           

                                       


أكملنا المسير بإتجاه باب الفتوح عندما رأيت بالقرب منه أهم وأشهر جوامع المنطقة على الإطلاق الأن وهو جامع الحاكم بأمر الله، والحاكم بأمر الله هو سادس الخلفاء الفاطميين، ويُعتبر ايضًا من أقواهم وأشدهم بأسًا وحكمًا، والذي أشتهرت عنه حكاية منعه لأكل الملوخية للعامة لأنه يعتبرها أكله ملوكي لا تليق إلا بحاكمٍ مثلة، ولم يكن هذا أغرب المراسيم التي أصدرها، فقد منع ايضًا عجن الخبز بالأرجل، وذبح الأبقار التي لا عاقبة لها أو التي تصلح للأستخدام في الحرث إلا في مواسم الأضاحي فقط.

مسجد الحاكم بأمر الله تم البدء في بناءه على يد العزيز بالله الفاطمي سنة 989م، واتم بناءه ابنه الحاكم بأمر الله سنة 1013م تقريبًا، ويعتبر هذا المسجد هو ثاني المساجد إتساعًا في القاهرة بعد مسجد ابن طولون، يقع المسجد على مساحة 120 متر طول و113 متر عرض، عند دخولي إلي المسجد أول مرة رأيت صحنًا واسعًا جدًا يتوسطة ميضة للوضوء والكثير من أسراب الحمام الموجودة على أرضيته الرخامية بيضاء اللون والتي كانت مريحة للعين بشكل كبير، أما عن المسجد فبه الكثير من الأروقة التي يمكنك السير فيها إلى أن تصل إلى الرواق المقابل لمدخل المسجد والتي يمكنك الجلوس به أو الصلاة كيفما شئت، كما يمكنك رؤية أعداد كبيرة من المهاجرين والسياح في صحن المسجد يصلون أو فقط يجلسون لألتقاط الصور في هذا المكان الرائع بحق.

                                                



بعد جلوسنا بالمسجد لمدة، قررنا الخروج والإتجاه إلى باب الفتوح للخروج شارع المعز الذي يعتبر من امتع الأماكن للخروج لقضاء وقتًا طيبًا في قلب قاهرة المعز وجوهرُه، بجوامعه ونحاسينه ودكاكينه التي تنتشر على جنباته في كل مكان.


*المصادر:
- وكيبيديا.
- كتاب "القاهرة: جوامع وحكايات" لحمدي أبو جُليّل. الهيئة المصرية العامة للكتاب.                                             


Wednesday, November 5, 2014

هكذا كانت الوحدة.

في الشهر الماضي، وتحديدًا قبل العيد، أتخذت قرارًا بالإبتعاد عن الموقع الأكثر شهرة بين مواقع التواصل الإجتماعي، لم أكن مكتئبًا، لم أكن حزينًا، لم أكن مشغولًا، فقط أردت الإبتعاد قليلًا والأكتفاء ببعض منصات التواصل الأقل كفاءة بالنسبة لي على الأقل.

ما حدث في هذا الوقت كان انني أنفصلت بشكل فعلي عن العالم، فأصبح العالم هو غرفتي، لا أعرف شيئًا مما يحدث خارج حدودها غير القليل جدًا، وبصراحة لم أكن مهتمًا أن أعرف ما يجري بعيدًا عني. ومن يعرفني جيدًا يعرف أن هذا ليس من طبعي في شيء، فقد كنت متواجدًا تقريبًا طوال اليوم على مواقع التواصل، فأنا أكره الوحدة، أكره الإبتعاد عن البشر إلا في ظروف استثنائية، عدا ذلك كنت متواجدًا تقريبًا بشكلٍ دائم.

والحقيقة إن قراري بالإبتعاد عن هذا كله لم يكن له سببًا واضحًا، فقررت أن أخلق له بعض الأسباب حتى يكتسب شرعيته كفعل مُسبب ومُعترف به، فما الأسباب التي يمكنني أن أفكر فيها كي يكتسب هذا الفعل شرعيته الكاملة؟

يقول البارون مونشهاوس في أطروحته التي شرحها الفيلسوف الألماني هانز ألبيرت أن الأفعال يمكن شرحها عن طريق ثلاثة إحتمالات للأسباب يمكن أن تكون مقبولة، الإحتمال الأول أن يكون الفعل نتيجة لتراكمات قديمة ترسبت في النفس فنتج عنها في النهاية هذا الفعل، الإحتمال الثاني أن يكون هذا الفعل نتيجة لمحاولة رجوع الشخص إلي المرحلة التي سبقت هذه المرحلة في حياته، كأن يتوقف عن حب من يحب ويعد إلي مرحلة ما قبل أن يحبهم، والإحتمال الثالث والأخير هو أن يكون الفعل يدور بداخل دائرة مغلقة، أي أنك تفعل هذا الفعل لا لشيء إلا لمجرد فعله، أي أنني أريد أن أركض لمجرد أنني اريد أن أركض.

لنعتبر أن السبب الذي دفعني للإبتعاد عن معظم مواقع التواصل الإجتماعي هو الإحتمال الأول، وأن هناك تراكمات كثيرة من قصصٍ وحكايات غير مهمة بالنسبة لي على الإطلاق، وأن هذه القصص قد كثُرت بشكل أدى إلي أنني أردت الأبتعاد عنها والتركيز في أي شيء يخصني فقط بعيدًا عن ما يخص غيري من الأشياء.

أو أنه الأحتمال الثاني، مجرد محاولة مني للرجوع إلى حالة الوِحدة التي كنت عليها قبل أن ادع القلق وابدأ الحياة وأكسب الأصدقاء وأؤثر في الناس كما قال كارنيجي، فيبدو أن كارنيجي فشل معي في إقناعي أن كسب الأصدقاء والتأثير في الناس يمكن فعله عن طريق الإهتمام بهم على حساب ما تهتم به أنت شخصيًا، فقررت ترك كل هذا، قررت ان ادع الحياة وابدأ القلق مرةً أخرى.

أو أنه الإحتمال الأخير، أنني أغلقت الدائرة على نفس فأنتقل العالم بأكمله إلي غرفتي ولم أعد أهتم بما يحدث خارجها لمجرد أنني أردت أن أفعل ذلك، ففي الحقيقة ليس هناك سببًا واضحًا لما أفعله فيمكنني إحالته إلي هذا الإحتمال الذي يبدو متماشيًا ومتناغمًا مع أي فعل فعلته في يومٍ ما وأي فعلٍ قد أفعله في المستقبل.

أما السبب الذي أريد أن أصدق أنه السبب الحقيقي وراء هذا الإبتعاد هو أنني أحاول التعوّد على الوحدة، على إنني سأكون في يومٍ من الأيام وحدي بلا أي تواصل من أي نوع، كيف سأتعامل مع هذا الظرف إذا لم أكن مستعدًا له، فالوحدة فالنهاية تعتبر ظرفًا لابد منه، لابد وأنك في يوم من الأيام ستكون وحدك، ماذا لو فُرضت عليك الوحدة في يومٍ من الأيام؟ ووجدت نفسك في عالمٍ غريب عنك، لم تألفه ولم يألفك، ماذا ستفعل حينها؟ هل ستشعر بالخوف؟

الغريب في الأمر، والذي حدث عكس ما توقعت تمامًا، وعكس الذي كان يحدث قبل شهور قليلة، أنني لم أشعر بالخوف في الوِحدة، بل وجدت بها راحةً أكثر من راحة الجماعية، فلم أشعر أنني افتقد أحدًا، وتقريبًا لا أحد يفتقدني أيضًا، لا أعرف، ولم أهتم أن أعرف، ولم يعد يعنيني هذا، ربما تكون هذه المرحلة هي مجرد مرحلة قصيرة المدى وستنتهي في وقتٍ ما، لكن في حقيقة الأمر، أنا لم أعد أهتم إن كانت ستنتهي أم لا، لكنني أتمنى لو انتهت، أن أجد ما يمكن أن يكون مهمًا، أن أجد يجعلني أهتم، أو يهتم، أو على الأقل يُظهر ذلك، عدا ذلك، ستبقى الوِحدة، ولا شيء غيرها.

أركن إلى المجاز الأقرب والأوضح، لضعف ما امتلك من حصيلة معرفية ولغوية وزخم شعوري تجاه العالم، فالوحدة هي الصحراء الواسعة، والظمأ الأرض ا...